عبد الحليم بن سماية الشيخ المناضل العالم الفقيه
بقلم: محمد الطيب-
علم من أعلام الجزائر الذين كانت لهم بصمات في الحياة الثقافية وتأثيرات عميقة في بعث الحركة الإصلاحية في الجزائر في الثلث الأول من القرن العشرين، إلى جانب العلماء كعبد القادر المجاوي، مصطفى بن الخوجة، أبو القاسم الحفناوي، صالح بن مهنا، المولود بن الموهوب، حمدان الونيسي الأوائل البناة للحركة الإصلاحية الجزائرية، التي تبناها الشيخ بن باديس وأصحابه وتلامذته.
كان من أشد الناقمين على الاستعمار الفرنسي، الشيخ مدرس، الصحفي، الكاتب، والموسيقي، ولد بالعاصمة في 1866، وكانت ساحة الشهداء زاخرة بالجوامع التي تقدم فيها دروس العلوم الشرعية، يشرف عليها نخبة من العلماء، ففي هذه البيئة تربى وعاش طفولته وشبابه، فتلقى تعليمه الأساسي على يد والده الشيخ علي بن سماية بجامع سفير، ودرس اللغة العربية والعلوم الشرعية على الشيخ السعيد بن زكري، وعلم الفلك والتاريخ على الشيخ الحفناوي صاحب كتاب "تعريف الخلف برجال السلف"، ثم انتقل إلى تونس لدراسة الفلسفة على يد الشيخ محمد بن عيسى الجزائري، أتقن العربية، والفرنسية.
وفي 1896 عيّن مدرسا بالمدرسة الرسمية الثعالبية، ثم استخلف والده بالجامع الكبير في 1900 لتعليم القرآن والعلوم الشرعية واللغوية، فدرّس "دلائل الإعجاز" و"أسرار البلاغة" للجرجاني، و"المفصل" للزمخشري، و"البصائر النصيرية في المنطق" لابن سهلان، "الاقتصاد في الاعتقاد" لأبي حامد الغزالي، و"تلخيص المفتاح" للقزويني، واهتم بالفلسفة والمنطق، وشارك في المؤتمر الدولي الرابع عشر للمستشرقين في 1905 بالجزائر، وقدم بحثا بعنوان "الحضارة الإسلامية والفلسفة"، وكان مهتما بمقارنة الأديان، فكان يقرأ الإنجيل والتوراة ويجادل علماءها، وكتب في بعض الصحف العربية الجزائرية "المغرب (1903-1904)، كوكب إفريقيا (1907-1914)، الإقدام (1920-1923).. باسمه الحقيقي وبأسماء مستعارة"، لم من مقالاته إلا القيل منها 7 مقالات في جريدة "المغرب" خصصها لموضوع الجاذبية و3 مقالات عن التصوف في "كوكب إفريقيا"، هذه المقالات لا تعبر بدقة وشمولية عن الحجم الحقيقي له، خاصة ما تعلق بأفكاره الفلسفية، فأفكاره التجديدية ومعارفه العلمية الواسعة جديرة بأن يطلع عليها القراء في الجزائر وفي البلدان الإسلامية الأخرى.
كان يشد إليه الرحال، فزاره العلماء الذين كانوا يوفدون على العاصمة من المناطق الداخلية أو من الخارج، فقد استقبل الإمام محمد عبده خلال زيارته إلى الجزائر عام 1903، وكان من المتأثرين بأفكاره وسعى من خلال منصبه بالمدرسة الثعالبية إلى الترويج لها بين طلبته الموجهين نحو الوظائف الإدارية والقضائية والدينية، كما راسل الإمام عبده بعد رجوعه إلى مصر، ونشرها الشيخ محمد رشيد رضا مع قصيدة في كتابه "تاريخ الإمام"، وقال فيها عن الشيخ عبده "هذا الرجل الجليل رجل حنكته تجارب الزمان، واستقصى أحوال الأمم حتى ميّز منها ما زان وما شان، وتطلع من الفنون على اختلاف أنواعها، ومواضيعها، وأعمل فكره أعمق تفكر وتدبر في الحبل المتين والقرآن المبين"، وزاره العالم الزيتوني الشيخ محمد الخضر حسين في 1904، وكتب عند عودته إلى تونس عن إعجابه بشخصه وعلمه، قائلا "التقينا بالشيخ بن سماية، فغمرنا بنفحات خلقه الناضر، واختلى ألبابنا بفصاحة لسانه الساحر"، ويقول بعد مجالسته "كلام يشهد لصاحبه بسلامة الذوق والولوع بالكشف عن أسرار المسائل دون الاكتفاء بتصوراته المجردة"، فهو يشكل مع مجموعة من العلماء والمثقفين كالشيخ المجاوي والشيخ بن الموهوب وعمر بن قدور وعمر راسم.. كتلة المحافظين التي تعاطفت مع فكرة الجامعة الإسلامية التي نادى بها الشيخ جمال الدين الأفغاني وتلميذه محمد عبده، وتعاونوا مع السياسيين المتنورين كمحمد بن رحال وأحمد بوضربة والشريف بن حبيلس للمطالبة بتحسين الأوضاع الاجتماعية والتعليمية والسياسة للجزائريين، فطالبوا بإلغاء قانون الأهالي وإعادة نظام القضاء الإسلامي، واحترام التقاليد الجزائرية، والسماح لهم بحرية التنقل والسفر خاصة إلى المشرق العربي، كما تزعم حركة المعارضة لقانون التجنيد الإجباري، فترأس جلسة 25 جويلية 1911 بالمجلس البلدي بالعاصمة، وحضرها أعيان المسلمين وتحدث باسم الوفد معربا عن رفضهم لمشروع التجنيد الإجباري.
ومن مواقفه الجريئة إصداره لفتوى "بعدم جواز محاربة الدولة العثمانية خلال الحرب العالمية الأولى لأنها مسلمة ويرتبط بها الجزائري برابطة دينية وولاء روحي بحكمها تمثل الخلافة الإسلامية".
وكان من أبرز تلاميذه والملازمين لدروسه العالم والمحقق الدكتور محمد بن أبي شنب، الدكتور محمد بن العربي أول جزائري تحصل على شهادة الدكتوراه في الطب، والشيخ عبد الرحمان الجيلالي المؤرخ والفقيه المعروف، كما ألف عدة كتب في الفقه والفلسفة والتصوف ونشر منها رسالة عن الربا في 1911 بعنوان "اهتزاز الأطواد والربى في مسألة تحريم الربا"، قال عنها تلميذه الشيخ عبد الرحمان الجيلالي "هي رسالة غزيرة المادة في موضوعها، استوعب فيها المؤلف أصول هذا الباب، دعا فيها علماء الإسلام قاطبة إلى تحمل مسؤولياتهم أمام هذا الموضوع الهام"، ونشر كتابا آخر في 1913 بعنوان "الكنز المكنون".
ظل نشطا موجها معارضا مما عرضه لمضايقات واضطهاد المستعمر، وأصيب جراء ذلك بمرض عقلي حيث إتخذ فرسا أبيضا وسيفا وعمامة وعين نفسه باشا الجزائر حاكما عثمانيا، لكرهه الشديد للفرنسيين، وذكر تلميذه الأستاذ توفيق المدني أنه لقيه على هيئته هذه وهو على فرسه فطلب منه أن يعلمه شيئا من علم المنطق، فقال له خذ ورقة وقلم و"أخذ يملي عليّ بلهجة علمية قاسية وفصاحة عربية نادرة وصوت جهوري تناسقت نبراته كما تناسقت عباراته، خلاصة وافية لعلم المنطق، بتعريفاته، وكلياته، وأقسامه وأمثاله، وأطال الإملاء إلى أن ملأت عشر ورقات، وقلت يكفي هذا الدرس الأول ولنترك الدرس الثاني إلى فرصة أخرى"، لازمه الجنون في آخر أيامه حتى وفاته في 4 جانفي 1933م (7 رمضان 1351هـ)، ودفن في مقبرة الشيخ عبد الرحمان الثعالبي.
وخصصت له مجلة "التلميذ" عدة صفحات، وكتب عنه تلميذه الشيخ محمد الحسن الحجوي مقالا طويلا ذكر فيه جوانب من حياته وأعماله، ووصفه بـ "حسن المحاضر، فكه المجالسة، متين الدين.."، ونقلت مجلة "الشهاب" خبر وفاته، كما وصفته بما يليق بمقامه، فهو في نظر الشيخ إبن باديس "عالم عامل، غيور على دينه ووطنه مخلص لهما، قضى حياته مدرسا بالمدرسة الثعالبية، فبث روحا طيبة فيمن اتصلوا به من تلامذتها معظما محترما عند زملائه فيها وعند رؤسائها"، رحمه الله ونفعنا بعلمه.
Aucun commentaire:
Enregistrer un commentaire