"اتيان ديني" المستشرق الفرنسي المسلم عاشق الصحراء الجزائرية
لو خُـير البشر بين العيش في غيابات الصحراء بقسوتها وبين حياة الترف والحضارة بأوربا، ترى العقل لا يتوانى في قبول الحياة الرغدة السهلة السعيدة وما بالك لو كان الأمر قبل قرن من الآن أو يزيد. هو مختصر التساؤل عن مستشرق فرنسي أبدل الحياة البرجوازية التي نشأة بها بحياة الريف الجزائري البسيط بحاله الجميل بعادات أناسه، هو "اتيان ديني" من صار يلقب بالحاج نصر الدين ديني الفنان الفرنسي عاشق الصحراء الذي أسلم.
ولد "اتيان ديني" في باريس سنة 1861 م وسط عائلة برجوازية ، كان والده قاضيًا فرنسيًا بارزًا و أمه كانت ابنة محامي تدعى "ماري لويز اديل". في عام 1865 ولدت شقيقته "جين" التي ستكون كاتبة سيرته الشخصية ومنفذة وصيته التي أرسلها إليها باللغة الفرنسية والى صديق عمره "سليمان" باللهجة المحلية لمدينة "بوسعادة" بالجنوب الجزائري حيث عاش واستوطن ليدفن بها كما أوصى.
الرحلة العلمية تتحول إلى شغف بالصحراء
زامنت حياة المستشرق الفرنسي الحقبة الاستعمارية الفرنسية للجزائر، وخلالها زار "اتيان ديني" الجزائر لأول مرة عام 1883 م و إلى منطقة "الأغواط" الجنوبية (420كلم جنوب العاصمة الجزائر) توجه حاملا معه آلة التصوير الفريدة وقتها محاولا تثبيت بعض الصور لمعاودة رسمها. واستطاع الفوز بميدالية من صالون الفنون لقصر الصناعة الفرنسي عام 1884م نظير إحدى لوحاته تلك. ولكن القدر شاء أن يعود "ديني" إلى الجزائر من خلال رحلة ناجحة إلى مدرسة الفنون الجميلة التي تحصل بها على منحة دراسية. في تلك الفترة زار الرسام والكاتب كلا من مدينتي "ورقلة" و "الاغواط" مجددا وقد أثرت فيه الصحراء الجزائرية وبقى فيها خمس سنوات كاملة.
و لدى عودته إلى باريس عام 1889، عرض "دينه" لوحاته التي رسمها عن مدينة "بوسعادة" التي استقر بها لبعض الوقت في مسيره بين مدينتي "ورقلة" و "الاغواط"وهذا في المعرض العالمي وفاز بالميدالية الفضية. لكن تأثير الصحراء الجزائرية لم يفارقه فعاد مرة أخرى إلى "بوسعادة" التي عشقها ليبقى هذه المرة فيها بشكل دائم، حيث تعرف أكثر على تقاليد المنطقة وعادات السكان وأصبح يتكلم العربية بطلاقة، وتصادق مع رفيق حياته "سليمان بن إبراهيم" الذي كان صديق عمره ورفيق دربه. وتحكي الروايات المتوارثة محليا أن صديقه هذا يكون قد أنقذه من الموت بعدما تربص به السكان المحليون لأن "دينه" نظر خلسة إلى وادي مدينة بوسعادة حيث النساء يغسلن أغراضهن أو يستحممن و حاول رسم المشهد لكنه كاد أن يوقع مشهد وفاته مقتولا لولا شهامة الصديق سليمان الذي أصبح دليله ومعرفه على تقاليد المنطقة رغم أنه كان يصغره بكثير، ووثقت الرسائل بين الجانبين قول "ديني" لصديقه "سليمان" عبارة "وليدنا" باللهجة المحلية والتي تعني إبننا.
أدب و فن الرسام
كان ديني يشغله حب الصحراء وأناسها ولم يهتم بأي أمر آخر، فأخذ في السفر بصحبة صديقه "سليمان" ليتعرف على الصحراء عن قرب وعن علاقة العرب بالبربر هناك، وهنا كتب الرسام كتبا عديدة تحدثت عن الصحراء الجزائرية وعن أدق التفاصيل فيها، فكتب عن "خضرة" وهي راقصة في ما يشبه الملهى الليلي لجنود الفرنسيين بالمنطقة وتحدث روايات منقولة شفويا أنه عشقها ومنها ما تقول أنه تزوجها. ولكن لا أثر موثق لذلك رغم أن حياة الفرنسي المستشرق كلها دونتها وثائقه ورسالاته وغيرها لدى أسرته بباريس أو في بيته ببوسعادة الذي قاسمه الحياة فيه رفيق الدرب "سليمان" مع زوجته الأولى فالثانية. وكان نشطا في الأدب العربي وترجمة إلى اللغة الفرنسية، من بين أعماله ترجمةٌ لقصيدة ملحمية ل"عنترة ابن شداد" سنة 1898.
كما شارك "اتيان دينه" في عدة معارض بالجزائر، من بينها معرض العام 1906م ومعرض العام 1922م، فأصبح عضوا مهما من الرسامين الفرنسيين الموجودين في الجزائر. وبالمقارنة بينه وبين الرسامين الحداثيين مثل"هنري ماتيس" الذي زار أيضا شمال إفريقيا في العقد الأول من القرن العشرين، فإن لوحات "دينه" جد متحفظة للغاية، فهو يحب التمثيل والمحاكاة بالواقع "الاثنوغرافي" في تعامله مع المواضيع. وكانت درايته وفهمه للثقافة واللغة العربية ميزته عن الآخرين المستشرقين، مما مكنه من العثور على نماذج عارية في الجزائر الريفية، وهو أمر صعب في هذه المجتمعات العربية الآمازيغية المحافظة جدا وتطلعه لذلك كان أن يودي بحياته، فجسد لوحات لنساء عاريات وأخرى أقل إثارة يتجلى فيها حب شابين بدويين لبعضهما ولوحات عن الحياة الإجتماعية كلوحة المرأة المطلقة أو التي تندب ميتا لها وعرفت صورة المرأة البوسعادية بكامل تفاصيل بلباسها وحليها التقليديين حضورا لافتة في توقيعاته. و يمكن وصف معظم أعماله قبل سنة 1900 بأنها مشاهد بشرية واقعية ومعاصرة. كما زاد اهتمامه بالإسلام بعد أن أسلم وبدأ برسم الموضوعات الدينية كلوحة ترقب هلال العيد وأخرى تتحدث عن ترقب هلال رمضان بهذه المنطقة الصحراوية والتي يكون قد أرخ لها جيدا بلوحاته الراقية.
مات مسلما
بعد الحرب العالمية الأولى عام 1914م صدر للفنان العديد من الاعمال الرائعة التي لم يلبث الفرنسيون رغم إعجابهم بها أن وصفوه بالخيانة. سافر دينات إلى مكة المكرمة عام 1929م لأداء فريضة الحج فأصبح يسمى الحاج نصر الدين. وبعد انتهاء موسم الحج في 2 أبريل 1929م سافر إلى باريس حيث توفي هناك بعد أشهر قليلة في 24 ديسمبر 1929 ، ونقل جثمانه بعدها إلى مدينة "بوسعادة" في ضريح ليستريح في المدينة التي لطالما عشقها. وهذا بناءا على وصية اوصى بها كلا من اخته "جين" والتي كتبها لها بالفرنسية ونفذتها كما طلب وموازاة معها و حينما اشتد المرض به راسل صديقه في رسالة مؤثرة مكتوبة باللهجة المحلية فيها البسملة والشهادتين في بدايتها وفيها يتوسل فيها "دينه" صديقه سليمان ان يبذل كل ما في وسعة لدفنه بمقبرة "مومنين" ( هكذا وردت المفردة في الرسالة ومعناها مقبرة العرب المؤمنين ببوسعادة) أو دفن ولو شيء من أغراضه او لباسه بالمقبرة وتسمية اسمه عليها ليترحم عليه. ولا يزال المتحف الذي يحمل اسمه ألان يحتفظ بالنسخة الأصلية للرسالة كما يحتفظ بعديد رسوماته ومؤلفاته التي للأسف لم تترجم للعربية حتى الأن رغم التظاهرات الثقافية والحراك الثقافي الكبير بالجزائر.
في الثلاثينيات من القرن الماضي أنشا في "بوسعادة" متحف "نصر الدين دينه" لا زال اليوم موجودا وهو من أكبر المتاحف بعدما تم توسيعه مع الاحتفاظ بمنزله كما هو كجزء من المتحف.
Aucun commentaire:
Enregistrer un commentaire