لقاء عظيميْن في البليْدة...خير الدين بربروس وسيدي أحمد الكبير الأندلسي
"...وبمجرد عودته من الباب العالي بتعليمات واضحة من السلطان بشأن سياسته الخاصة بالمسألة الأندلسية واللاجئين الأندلسيين/الموريسكيين، توجَّه خير الدين "سيِّد البحار"، على حدِّ وَصْفِ تْرُوملي ، في كوكبة من رجاله وفرسانه مرفوقا بنجله حسَن من "دار السلطان" في مدينة الجزائر إلى وادي الرُّمَّان عند قبيلة أولاد سلطان للقاء رجل كاريسماتي يحظى باحترام كبير في هذه المنطقة التي كان يتزعمها روحيا وينير لها الطريق بحكمته، فضلا عن كونه مثقفا ومتديِّنا من أهل التصوُّف وملمًّا بفنون الرَّي...
هذا الرجل الذي نُسِجتْ حول وَرَعِه وتقواه وحول قدراته الغيبية، خصوصا في تطويع مجاري المياه والسواقي والأنهار بما يُحيي الأراضي الموات ويحولها إلى جنات، هذا الرجل لم يكن سوى سيدي أحمد الكبير نفسه الذي سوف يُصبح بعد وفاته أحد أبرز أولياء المتيجة الصالحين بعد أن بُني له ضريح ما زال موجودا إلى اليوم .
هذه الزيارة التي اعتَقَدَ الناسُ حينذاك أنها "مجرد زيارة تبرُّك"، على حد تعبير مصطفى أحمد بن حموش ، كانت في الواقع نواة السياسة الجزائرية الأندلسية التي اعتَمدتْ، على غرار ما فعل الباب العالي في مختلف أقاليم الإمبراطورية العثمانية، على الإدماج الفوري الاجتماعي – الاقتصادي للاجئين الأندلسيين/الموريسكيين من جهة، وإشراكهم في العمليات العسكرية البحرية والبرية ضد الاعتداءات الإسبانية على السواحل الجزائرية وفي عمليات إنقاذ وإسناد الموريسكيين الذين بقوا في إسبانيا من جهة أخرى.
النظام الجزائري الجديد كان يعتمد في بسْط سلطته وتثبيت حُكمه على الارتباط بالزعامات الروحية والأعيان المحليين، بمن فيهم شيوخ الطُّرُقية الذين كان جزء هام منهم من المدجَّنين. وكانت هذه الغاية من دوافع اللقاء الحاسم في وادي الرّمان بين خير الدين وسيدي الكبير، الذي يُنسَب هو ذاته إلى الوافدين حديثا من "الفردوس المفقود" ، لتوفير الدَّعم لسياسة إدماج أهل الأندلس في المنطقة وتيسير قبولهم من طرف السكان المحليين الذين كانت قبيلة أولاد سلطان أقواهم وأكثرهم كثافةً ونفوذا.
وانتهى لقاء باشا الجزائر وسيدي الكبير الذي دام بضع ساعات بإقطاع خير الدين أراضٍ للأندلسيين/الموريسكيين في المنطقة وتقديم مساعدة مادية لهم، إضافةً إلى منحه سيدي الكبير الغطاء المالي الضروري لبناء نواة المدينة التي ستُعرَف إلى اليوم بـ: "البليدة"، عاصمة سهل المتيجة.
وشُيِّدتْ هذه النواة الحضرية، التي وُلدتْ أندلسية/موريسكيةً خالصة، بميزانيةٍ سمحتْ ببناء مسجد جامع وفُرْن وحَمَّام شهدوا النور بعد عامٍ بسواعد البنّائين والمهندسين المعماريين الموريسكييين المحليين، حسب الضابط تْروملي ، والذين تنسبُهم مصادر وروايات أخرى أكثر دقَّة إلى منطقة أُولِيبَة (Oliva) في شمال آلِيكَانْتِي الإسبانية. وتُشكِّل مثل هذه البُنَى التحتية تقليديا عِمادَ الحواضر الإسلامية آنذاك وعمودها الفقري .
حدث اللقاء بين الشيخ والقائد العثماني عام 1535م، مثلما يؤكد الفرنسي تروملي والجزائري مصطفى أحمد بن حموش ، وتكللتْ جهود بحَّار جزيرة ميدلِّي السابق، الذي ولاَّه الجزائريون على شؤونهم، بالنجاح في إحدى أول وأبرز العمليات الكبرى لتوطين الهاربين من محاكم التفتيش الإسبانية في الجزائر.
وأصبحت البليدة منذ تلك الفترة مدينة يشكل الأندلسيون/الموريسكيون نصف سكانها على الأقل إلى غاية القرن 19م، وذلك حتى بعد أن تعرضت للتدمير بفعل زلزال عام 1825م ، فضلا عن تحوُّلها منذ لقاء القائد العسكري البيلرباي خير الدين والمثقف الصوفي ومهندس الرَّيّ سيدي أحمد الكبير، الذي فارق الحياة في 970 هـ/1540م.
بعد 5 أعوام من هذا الحدث التاريخي الحاسم، إلى قاعدة عسكرية هامة وما زالت كذلك إلى اليوم....
وبعد عقود معدودات من استقرار الأندلسيين/الموريسكيين على أرضها، تحوّلت البليدة إلى إحدى أجمل وأغنى الحواضر الجزائرية بعبقها الأندلسي وثقافتها الموريسكية الرقيقة وبيوتها وقصورها الجميلة، التي شُيِّدت على النمط الإيبيري/الإسلامي، الشبيهة بديار مدينة الجزائر العتيقة، وبِجَنّاتها الواسعة الخضراء، والشبيهة بالعاصمة الجزائرية أيضا بِحِرَفِهَا وصنائعها على غرار بعض مراحل صناعة الشَّاشية والصِّباغة وصناعة الزلِّيج الذي زُيِّنتْ به جدرانُ الدِّيار والقصور والعيون العامة.
وتَحَوَّلَتْ أحراشُها والضواحي المحيطة بها، بعد تحويلٍ ذكيٍّ لمياه وادي الرُّمان من طرف سيدي أحمد الكبير وتطوير تقنيات استغلالها على النمط الأندلسي، إلى بساتين وضيعات مروية بالسواقي والنوريات أصبح يُضرب بها المثل إلى اليوم.
وكثيرا ما أطلقتْ على هذه البساتين والجِنان المنتشرة في أرباض البليدة أسماء بلدات في "الفردوس المفقود" أو تتضمن نسبة مَا إليه. نذكُر منها: بُوقَرَّة التي تُحيل إلى (Bogarra) الواقعة في بلدية آنْغِيتَّا (Anguita) في إقليم وادي الحجارة الإسباني (Guadalajara)، ووادي الرُّمان التي لها نظير أندلسي هو بلدة "غْوَرُّمان" (Guarroman) في مقاطعة جيَّان، أو "خَايِينْ" (Jaen) حسب النطق الإسباني، في إقليم الأندلس جنوب إسبانيا الحديثة، والشبلي التي تُحيل إلى الإشبيلي...إلخ....".
Aucun commentaire:
Enregistrer un commentaire