"البرواقية" مدينة شاهدة على من مر بالجزائر
كامل الشيرازي من الجزائر: تمتاز مدينة البرواقية الجزائرية ( 125 كلم جنوبي العاصمة) بعراقتها وتاريخها الممتد منذ زمن القلعة الرومانية القديمة "تاناراموزا كاسترا" الموجودة بقلب المنطقة، إلى حقبة الاحتلال الفرنسي مرورا بالعهد العثماني، وفي هذه الرحلة، تسعى "إيلاف" مع عدد من الباحثين للتفتيش في ذاكرة البرواقية وأشواطها بحكم مكانتها كشواهد حية على مختلف منعطفات التاريخ الجزائري.
وسط طبيعة قاسية وقمم جبلية ممتدة، قطعنا منعرجات وغابات "الفرنان" لنعانق مدينة البرواقية المشتهرة بأبنائها الطيبين وبراكينها النائمة، الناس هناك يحتضنونك بشكل ينسيك البرد الهادر، علما إنّ البرواقية تتربع على شبه سهل منبسط وتقع على سفوح سلسلة الأطلس التي التهمت آلة العمران أغلب أراضيها.
وتشير الباحثة "نوال عبيري" لـ"إيلاف"، إلى أنّ سبب تسمية المدينة بالبرواقية تعود إلى نبتة واسعة الانتشار بها يُطلق عليها مسمى (البرواق) وباللاتينية (asphodele asphodelus )، أيام الحضارة الرومانية العتيقة.
من جانبه، يوضح الأستاذ نور الدين زيّان أنّ البرواقية كانت تُنعت من لدى الرومانيين القدامى، بـ"تاناراموزا كاسترا" تبعا لتشكلها كقلعة كبيرة تمركز فيها الرومان خلال فترة حكمهم للمدينة ما بين سنتي 193 و211 بعد الميلاد، ودلالة ذلك آثارهم العديدة التي تركوها هناك، مثل مخططات وكتابات رومانية ورؤوس من البرونز، ومجموعة تماثيل للعشق والحب إحداها منسوبة لشاعر روماني يُدعى "ت/أكليوز زابيدور" وغيرها.
ويضيف أبو بكر (37 سنة) المختص بعلم الاجتماع وهو أحد أبناء المدينة، إنّ كتابات موثقة للمؤرخ الشهير "ستيفان قيسال" الذي دوّن تاريخ شمال إفريقيا القديم، تحدثت عن تمظهر البرواقية كمنطقة عسكرية زراعية، وينقل أبو بكر على لسان قيسال قوله أنّ الإمبراطور الروماني "سيتيم سيفار" قام ببناء مخيم عسكري سرعان ما جرى تحويله إلى قلعة سٌميت "تاناراموزا كاسترا"، وكان ذلك مشفوعا بحسب أبو بكر، بتطور لافت في العمران والحمامات.
بيد أنّ ثورة العمران والتغيرات المتسارعة التي شهدتها مدينة البرواقية بحلتها الجديدة، لم تترك أي أثر للمدينة الرومانية العتيقة ""تاناراموزا كاسترا"، خلافا للمدن الرومانية القديمة الواقعة بالجوار، على غرار رابيدوم، ماديكس، لمبديا، فزينازا، ألاساباستانا وغيرها.
ويقول الأستاذ "كمال فرقاني" إنّ مدينة البرواقية خلال فترة التواجد العثماني في الجزائر، أخذت وجهة زراعية بالتزامن مع اتخاذها من طرف الأتراك كخلفية عسكرية، حيث أقدم الباي أوزناجي في الفترة ما بين 1775 و1794 بتنشيط الآلة الزراعية المنتجة ما أتاح افتتاح حظائر لتربية المواشي بالتوازي مع الاستزراع وتخزين كميات ضخمة من القمح وسائر الحبوب.
ويلفت فرقاني إلى أنّ الباي أوزناجي أنشأ أيضا مراكز عسكرية لمواجهة القبائل التي شقت عصا الطاعة ورفضت الخضوع لحكم السلطان العثماني آنذاك، ويضيف محمد وهو ابن المنطقة إلى أنّ الرواة يؤكدون أنّ القبائل العريقة في البرواقية ظلت في مد وجزر مع العثمانيين إلى غاية سقوط الجزائر بيد المحتل الفرنسي.
وتلاحظ الباحثة "نوال عبيري" أنّ نكبة الاحتلال الفرنسي للجزائر، وحّدت سكان البرواقية على غرار المدن الأخرى، وانضوى سكان البرواقية تحت إمرة الأمير عبد القادر مؤسس الدولة الجزائرية الحديثة، وشهدت المنطقة معارك ضارية شنّها المقاومة الوطنية وقتذاك ضدّ الفرنسيين بقيادة الجنرال "باراقواي دهيليس"، قبل أن يسيطر الفرنسيون على المدينة ويقومون بزرع عديد المستوطنين فيها، ما قسّم البرواقية في الفترة اللاحقة إلى ناحية فرنسية استولى المقيمون فيها على كل الخيرات، ومجموعة من الأحياء العربية الفقيرة والمحرومة ارتضى المحتلون الاصطلاح عليها بـ"قرى العبيد".
وبعد تضحيات جسام قدمها أبناء البرواقية على منوال مواطنيهم في سائر مناطق الجزائر، جرى التحرر من ربقة المحتل في الخامس يوليو/تموز 1962، ويعدّد الأستاذ نور الدين زيّان لائحة طويلة من الأسماء الثورية البارزة من أبناء البرواقية أمثال: محمد بوسماحة المدعو موح البرواقي، أحمد الشريف قرطبي، محمد سحنون، علي فراح، فرقاني بن سليمان، والراحل الكبير بن يوسف بن خدة الرئيس المجاهد ( 1923 /2003).
وأنجبت مدينة البرواقية قوافل من الكتاب والفنانين والرياضيين، على غرار الأديب الفذ "علي بومهدي" (1934 / 1994) والملحن شريف قرطبي وغيرهما.
Aucun commentaire:
Enregistrer un commentaire