وقفنا في الأسبوع الماضي عند التساؤلات المستنكِرة لحجم التنازلات- و المشفقة على مصلحة هذا الدين- التي أبداها عمر رضي الله عنه لكل من النبي صلى الله عليه و سلم و أبي بكر الصديق، و العبر التي يمكن أن تُستخلص من هذا النقاش الذي كان يجري في عزّ الحدث، و كيف كانت إجابة الرسول مفعمة باليقين، مستبشرة بفجر قريب، في مقابل حرقة تنطلق من عالم الأسباب، و تربط المقدمات بما يُقدَّر أن تُفضي إليه من نتائج في غير صالح المسلمين، و مع ذلك لم يقمع النبي صلى الله عليه و سلم ما بدا أنه احتجاج صامت من قِبل الصحابة، تطور على يدي عمر إلى ما يشبه الاحتجاج العلني، بالرغم من اليقين الذي أُعطيه النبي، وترسخ لديه بما يعلمه من مراد ربه.
الموقف لم يكن أبدا سهلا، وحجة عمر كانت تدعمها حالة أبي جندل الإنسانية الماثلة أمام الأعين، وحجة النبي صلى الله عليه وسلم كانت تقوم على وعد بالطواف بالبيت لم يُحَدد زمنه، و على أمل تحقيق مقصد من دون اللجوء إلى وسائل مُكلفة، و لا يزال كثير من الخلاف سببه حالات قائمة يقدِّر مَن يتبناها أنها تؤشِّر لخيار معين ينبغي أن يُسلك، هو أقرب إلى المواجهة، و يرى آخرون أن المقاصد الكبرى التي تُقرر منذ البداية يجب أن يُفسح لها في آجال التحقق المُقدَّرة، و لو اعترضت سبيلَها حالاتٌ أو حوادثُ جزئية مهما كانت خطورتها! و حالة أبي جندل حالة جزئية مؤثرة لا ريب، والانتصار لها كان يعني العودة من دون صلح و لا اتفاق على هدنة، و كان يعني أكثر من ذلك التفريطَ في مكاسب تُرتجى، بينت الأحداث التي تلت أنها كانت فتحا مبينا.
و قد يقول قائل: إن ذلك الخلاف قلل من خطورته وجود النبي صلى الله عليه و سلم بينهم، والوحي يتنزل، و إن أبطأ أو تلبّث، و هذا صحيح، لكن الصحيح أيضا أن الصحابة أدلوا بدلائهم في القضايا الكبرى، و احتدم بينهم فيها خلاف غير يسير، و لم يمنعهم مقام النبوة أن يفعلوا، و لا نهاهم الوحي أن يختلفوا، و لو لم يكن الخلاف في الرأي مرادا لتنزل القرآن في غمار الحدث يفصل فيه، ويقطع حبل النقاش و ما ينجرّ عنه من آثار، و لو لم يكن مشهد الخلاف في التقدير في الحديبية مرادا لما تأخر الأمر بالوحي إلى ما بعد الهدنة و الاتفاق عليها.
و أبانت مواقف بعض الصحابة الكبار عن نهجين في التعامل مع النبي سيبقى الخلاف بشأنهما في التعامل مع المتبوع قائما، نهجِ عمر في التساؤل و الاعتراض و النقاش، و نهج أبي بكر في التسليم والانقياد و التصديق، و كلا الموقفين مطلوب، و لا تعني النتائج و مآلات الأحداث تزكية لنهج دون آخر، و لا الثناءَ على شخص دون آخر، فموافقات الوحي لعمر مشهورة، و مقام الصديقية الذي حازه أبو بكر لا يُعرف لأحد سواه، فكلا النهجين يسعهما اجتهاد جرى في حضرة النبي، فما أجدر أن تستمر بهما طرائق في التأصيل للخلاف المحمود، و من ضرورات هذا المنحى أن تأتي النتائج تارة لصالح هذا الطرف، و تارة أخرى تُسعف الطرف الآخر، و لا يشوش على هذا الأمر أن قال عمر: " فعملت لذلك أعمالا، كما نقل الزهري في الخبر، في إشارة إلى تكفيره عن ذاك الاعتراض الشديد الذي واجه به النبي صلى الله عليه و سلم، فهو يعبر عن حساسية مرهفة لدى عمر رضي الله عنه، عُرِف بها، و يتحسّب من خلالها للّمم أن ينقض إيمانه، أو للمخالفة أن تُحبط عمله، وتأثّمه هذا إذًا نابع من استشعاره لخطورة أدنى خلاف، أكثر مما يعبر عن خطأ في المسلك، أو توبة عن نهج مرجوح.
و تفسير ما حصل لأبي جندل-من تسليمه للمشركين- نزولا عند بنود المعاهدة: يحتمل أحد معنيين يمكن التأصيل بهما-حسب الظروف-لوقائع لاحقة، حسبما أفاد الخطابي، فيما نقله عنه الحافظ ابن حجر، قال:" تأول العلماء ما وقع في قصة أبي جندل على وجهين، أحدهما: أن الله قد أباح التقية للمسلم إذا خاف الهلاك، ورخص له أن يتكلم بالكفر على إضمار الإيمان إن لم يمكنه التورية، فلم يكن رده إليهم إسلاما لأبي جندل إلى الهلاك، مع وجود السبيل إلى الخلاص من الموت بالتقية، والوجه الثاني: أنه إنما رده إلى أبيه، والغالب أن أباه لا يبلغ به الهلاك، وإن عذبه أو سجنه، فله مندوحة بالتقية أيضا، وأما ما يخافه عليه من الفتنة فإن ذلك امتحان من الله يبتلي به صبر عباده المؤمنين..."و مآل الأمرين إلى حالة الإكراه التي تبيح الترخّص، مع تفويض الأمر إلى إيمان المُبتلى، ثم يعرض الخطابي للحكم فيما لو عرض للمسلمين موقف مماثل فيقول:"...واختلف العلماء هل يجوز الصلح مع المشركين على أن يُرَدّ إليهم من جاء مسلما من عندهم إلى بلاد المسلمين أم لا؟ فقيل: نعم، على ما دلت عليه قصة أبي جندل وأبي بصير، وقيل: لا، وأن الذي وقع في القصة منسوخ، وإنّ ناسخه حديث" أنا بريء من مسلم بين مشركين" وهو قول الحنفية، وعند الشافعية تفصيل بين العاقل والمجنون والصبي فلا يُردان، وقال بعض الشافعية: ضابط جواز الرد أن يكون المسلم بحيث لا تجب عليه الهجرة من دار الحرب والله أعلم."(فتح الباري:5/345)
و يبدو أن الخطابي قد سوّى بين الأمور الثلاثة و لم يرجِّح، و إن أوحى نقله بترجيح الأمر الأول، لذكره أولاً، و لقول الجمهور به فيما يُفهم من تخصيص رأي الحنفية بالذكر؟ و مع أنّ النسخ يحتاج إلى دليل قوي إلا أن الفرق الواضح في النسخ المُدّعى أن الناسخ المفترض يعرض للإقامة الاختيارية بين المشركين، و أما واقعة أبي جندل فتكتنفها ظروف الإكراه، فلا يمتنع حينئذ أن تُستثنى مثل حالة أبي جندل من عموم النهي، علما بأن فقهاء عصرنا هذا-أو بعضهم على الأقل-قد أباحوا إقامة الطالب و الداعية بين ظهراني النصارى، و لم يُنقل أن أفتى فقيه معتبر بتحريم الهجرة إلى ديارهم على من ضاقت عليه سبل الرزق أو العيش الكريم في بلده الأصلي؟!
و مما يُذكر في الصحيح أيضا أن أبا بصير قد جاء إلى المدينة مسلما، فسلّمه الرسول إلى الرجلين اللذين بعثتهما قريش لاستعادته، في اختبار ثانٍ لمدى التزام الرسول بالهدنة التي عُقدت، و في امتحان لإيمان مَن آمن، يزداد به صبر مَن احتسب، و تتوثّق به روابط جماعة تبغي ترسيخ تقاليد الدولة التي نشأت، من خلال احترام تعهداتها، و الوفاء بالتزاماتها مع الآخرين، غير أن الفرق بين رد أبي جندل ورد أبي بصير أن الثاني منهما قد جاء بعد أن هدأت نفوس الصحابة، و بعد أن نزل الوحي مزكيا صنيع النبي، و واصفا للهدنة بالفتح المبين.
إن تصرف النبي صلى الله عليه و سلم في كلتا الحالتين التزام منه بالعهود و المواثيق، و تأكيد لما ورد في نصوص الكتاب و السنة، من وجوب ذلك على المسلمين، و من حرمة الإخلال و النقض، و أهمية تأكيد هذا المبدأ أن اختبار الوفاء به جاء في أثناء الحدث ذاته مع أبي جندل، حين رفع صوته محتجا:"أُردُّ إلى المشركين و قد جئتُ مسلما..؟! ففي رواية الصحيحين لم يَرد فيهما جوابٌ للنبي صلى الله عليه وسلم، و ورد ذلك عند ابن إسحاق-فيما ذكره ابن هشام في سيرته-حيث قال له:" يا أبا جندل: اصبر واحتسب ، فإنّ الله جاعل لك و لمن معك من المستضعفين فرجا ومخرجا، إنا قد عقدنا بيننا وبين القوم صلحا، وأعطيناهم على ذلك وأعطونا عهد الله، وإنا لا نغدر بهم "(السيرة النبوية: (3/318) وانظر:فتح الباري:5/345) و قد تكررت نفس الوصية حين استنكر أبو بصير تسليمه إلى مبعوثي قريش."
05
mardi 23 décembre 2008
وقائع الحديبية الدكتور محمد عبد النبي
Inscription à :
Publier les commentaires (Atom)
Aucun commentaire:
Enregistrer un commentaire