vendredi 23 février 2018

العلامة بن شنب: “هبة مغاربية كرّست وصال الأمة”
استقرت المنظومة الفكرية العالمية على أنّ قيمة الثقافة الشعبية تتلخّصُ في وِعائها الذي تحوي على الطرحَ ألهوياتي وكشفُ البُعد الحضاري لكلّ أمّة، ومن ثمَّ فإنَّ الاهتمام بها في مظهرها المادية والمعنوية هو اهتمام بأصالة الشّعب حضاريا وبأصوله التاريخية ثقافياً، فقد بات ضروريا الحفاظ على مواد الثقافة الشعبية وصيانتها من كل زيف معاصراتي أو تشويه انفتاحي، فالثّقافة الشعبية مرتبطة بالهوية الوطنية وهي في حقيقة الأمر وجود الشخص أو الشعب من خلال مواصفات صرفة به، وأيضا هي بناء يُمكن إدراك صاحب الهوية بعينه دون أن يتشابه مع أقرانه، إلاَّ أنّه وفي ظلّ وضع سياسي وإيديولوجي حالي يعيشه العالم العربي ومثقّفيه فهل بإمكان الثقافة الشعبية مواجهة مستقبل تريد العولمة الثقافية فرضه من خلال نموذج أوحد واحد على حساب ثقافات الشعوب؟ وهل يمكن لها مقاومة أذرع التّحديات الكبرى من وسائل الاتّصال الحديثة جاعلةً من المجتمعات لا تستطيع الاحتفاظ بخصوصياتها الثقافية في مظاهرها المادية والمعنوية والسلوكية؟ ناهيك عن تسربات جبهة الماضي وما ألصقه الاستعمار بالثقافة الشعبية من أوصاف خاطئة وخطيرة…
واهتمام المستعمر بالثقافة الشعبية المحلية فذلك كان نابع من أطماعه الاستيطانية والإيديولوجيات لذا جاءت الكتابات عن الثقافة الشعبية المحلية بمبررات الهيمنة والاستعباد، مما خلق ذلك محاولات صد من المفكرين المغاربة للدّفاع عن ثقافتهم الشعبية وتثبيت عناصر هويتهم الوطنية، ومع أنّ للأمّة الجزائرية ثقافتها الشعبية وتشكيلاتها المتعدّدة من جذور واحدة فقد أدركت ذلك بأعلامها الذين بهم اكتشفت كُنه وخصائص موروثها الثقافي ومنهم “محمد بن العربي بن محمد أبي شنب الجزائري” الأديب الباحث، وأحد أعلام المغرب العربي النابهين في نهاية القرن التاسع عشر وبداية القرن العشرين، وأحد رواد النهضة العربية الحديثة، ومن العلماء الذين أسهموا بقسط كبير في حماية التراث الوطني بقسميه المادي والمعنوي في مرحلة تعرضت فيه الجزائر لمحاولة طمس عناصر هويتها الوطنية بأقلام متشددين استعماريين كان هدفهم الاحتلال والسيطرة على مقدرات الجزائر وشعبها، فقد أدرك “بن أبي شنب” أهمية التراث الثقافي للأمّة الجزائرية ودوره الكبير في الحفاظ على تماسكها واستمرارها، فالتفت إلى التراث الشعبي باعتباره الوسيلة التي بقيت للجزائريين في نقل خبرات حياتهم ومحاربة سياسة الطمس، والتغريب، والتجهيل، وفي رد كل الممارسات التي أبانت عليها الإدارة الفرنسي المُستعمِرة بعنف ووحشية، من هنا جاء اهتمامه بالموروث التراثي الجزائري كسلاح يذود به عن بني جنسه.
“عراقةٌ في الجذور وصفاء في النسب“
ولد محمد بن أبي شنب سنة 1869 في مدينة “المدية” جنوب الجزائر العاصمة، وكان والده من أهل اليسر وأعيان الزارعين منشغلاً بأراضيه وأملاكه الخاصّة، ونشأ في ظلّ الاحتلال الفرنسي وعاش في حجر والديه موقراً مقدماً على أترابه لما كانت له من كياسة الرأي واستقامة السلوك، ألحقه والده مع شقيقه “أحمد” بكتاتيب تعليم القرآن فأخذ كتاب الله عن شيخه “أحمد برماق” قبل أن يلتحق بمدرسة المدية الثانوية، ليتعلم اللّغة الفرنسية والعلوم الغربية وفق المنهج المفروض من قبل سلطات الاحتلال، ثم انتسب إلى دار المعلمين “بوزريعة” بأعالي الجزائر العاصمة سنة 1886، وتخرج منها حاصلاً على إجازة تعليم اللّغة العربية والعلوم الفرنسية في “المدارس الابتدائية الوطنية” في “قرية سيدي علي” قرب المدية تعرف حاليا باسم “وامري”، ثمّ بمدينة “جندل” فدرس وعلم فيها أربع سنين لينتقل إلى الجزائر العاصمة دارسا على يد الأستاذ الشيخ “عبد الحليم بن سمانة”، إذ أمضى عشر سنوات شُغِل فيها بالتعليم وتحصيل علوم اللغة العربية واستدراك ما فاته منها، فقرأ النحو والصرف والعروض، وشيئاً من علوم الدّين، وتقدم بما حصله إلى مدرسة الآداب العليا فنال إجازتها وتولى التعليم في مدرسة “الآداب” بمدينة قسنطينة سنة 1898 خلفا عن شيخها الأستاذ “عبد القادر المجاري”، فدرّس علوم اللغة العربية والأدب والفقه والبيان، وبقي قائماً بها حتى سنة 1901 حيث عين مدرسا بالمدرسة “الثّعالبية” بالعاصمة في مقام الشيخ “عبد الرزاق الأشرف”. وبعد أن أمضى في وظيفة التدريس هذه إلى غاية سنة 1924 عين أستاذاً رسمياً في “كلية الآداب الكبرى” بالعاصمة عوضاً عن “م. كولان” تاركا المدرسة الثعالبية بعدما قضى فيها معلماً ومرشداً ناصحاً مدة 23 سنة، ومنها ارتقى إلى القسم الأعلى من هذه المدرسة فقرأ فيها النحو والأدب والبلاغة والمنطق، وفي أواخر عام “1922م” تقدم إلى كلية الآداب الجزائرية ببحثين للحصول على درجة الدكتوراه في “حياة أبي دلامة وشعره” و”الألفاظ التركية والفارسية الباقية في اللهجة الجزائرية” فمُنح درجة الدكتوراه وكلف بالتدريس في الكلية، وقد برز في مجتمعه كشخصية مثقفة موسوعية مهتمّ بعدّة معارف كالبلاغة والمنطق والتحقيق واللّسانيات والأدب ورُزق القدرة التحصيل والصبرً على البحث والرغبة في الإفادة، ومع قوّة ذكائه ونبوغه على الحفاظ جعلاه يستوعب علوماً كثيرة من الثقافتين الغربية والأجنبية ويتدرج في مراتب العلم إلى أن حل أعلاها بجهد ذاتي دءوب وثقة كبيرة بالنفس، وقضى حياته في التدريس والبحث إلى أن وافته المنية سنة 1929.
“نافذةُ للجمعِ والتحقيق وأفقُ للتأصل والتحصيل“
يرى المؤرخون في محمد بن أبي شنب أنّه الرجل الذي جمع بين أصالة المظهر ورحابة الفكر، وبين قوّة الحجّة وبلاغة اللّسان، وفي تنوع العلوم وغزارة التأليف، فقد جاءت مؤلفاته بالتنوع رصدت كثير من المجالات، في الفقه والأدب وعلوم الدين واللسانيات والسّير الذاتية والتراجم والتاريخ والأمثال الشعبية والتحقيق في المخطوطات وفي المطبوعات والترجمة من وإلى العربية بحكم تمكنه من عدّة لغات، حيث جمع ابن أبي شنب بين الثقافتين العربية والغربية فأتقن اللغتين العربية والفرنسية وأَلَمّ باللغات الأوروبية من القديمة كلاتينية وحديثة من إيطالية وألمانية وإسبانية، وفي لغات الشرق من الفارسية والتركية. كما أخذ عن المستعمرين الفرنسيين علومهم وطرائقهم في الدرس وعن مناهجهم في البحث والتدوين، مما مكنه هذا الجمع امتلاك عدّة البحث العلمي لخدمة التراث العربي فتعمق في علوم اللغة العربية وأحاط بالأدب العربي وعمل مع أهل الثقافة العربية والمشتغلين بها من مستشرقين. كما يذهب بعض الباحثين إلى القول إنّ الرجل قدّم أبحاثا بلغة المستعمر ذاته ليوضح فيها الهوية الثقافية المتميزة للشعب الجزائري التي تختلف كلية عن ثقافة المُستعمِر حتى وإن حاولوا أن يدمجوها بالقوّة والاستيطان، وعلى أنه بالرغم من تبوئه مناصبا علمية هامة إلاَّ أنّه بقي متواضعا محافظا على شخصيته وهويته، هذا ما يؤكده العلامة “محمد كرد” عنه بإعجاب قائلا “شاهدته يخطب بالفرنسية في مؤتمر المستشرقين وهو في لباسه الوطني: عمامة صفراء ضخمة، وزنار عريض، وسراويل عريضة مسترسلة، ومعطف من صنع بلاده، فأخذت بسحر بيانه واتساعه في بحثه”.
كان ابن أبي شنب يجمع صفات العالم إلى صفات الصلاح، وعُرفَ عنه بكرم النفس ورجاحة العقل، وبالعفّة والاستقامة، ولطف المعشر، والمسارعة إلى مساعدة الآخرين، فكان صورة صرفة للنموذج العربي المعاصر وللأديب العربي الحداثي الذي يعرف كيف يضطلع بالمناهج الأوروبية في البحث والتحصيل من غير أن يفقد شيئاً من مقومات هويته الجزائرية ومكوّنات شخصيته العربية المسلمة، هذا ما جعله يكتسب احترام المثقفين العرب والأوربيين وتقديرهم له، فانتخب في عام “1920م” عضواً في “المجمع العلمي العربي بدمشق”، وحاز على عضوية “أكاديمية العلوم الاستعمارية بباريس”، وفي سنة “1922م” قلدته حكومة فرنسا وسام فارس جوقة الشرف تقديراً لجهوده في التقريب بين الثقافة العربية والثقافة الفرنسية، وكانت له مكانة كبيرة عند المستشرقين حيث يرجعون إليه في الأمور التي تشكل عليهم عسر في الفهم أو التحليل فجعلوا له اسم “شيخنا” ينادونه به تقديرا لمكانته العلمية والأكاديمية.
“عالم في آثاره وإصلاحيٌ في اجتهاده“
بحث العلامة محمد بن أبي شنب كثيراً في مستعصيات وغوامض المسائل وقضى حياته على العمل الميداني في المجال العلمي، وكان ينشر البحوث القيمة في الدوريات العربية والأجنبية ويضع المؤلفات باللغتين العربية والفرنسية، ويُخرج كنوز التراث العربي من خباياها فحقق عدداً كبيراً من كتب التراث في اللغة والنحو والأدب والتاريخ والتراجم، فضلاً عن البحوث الميدانية في التراث الشعبي الجزائري واللّهجة الجزائرية، وشارك في صنع فهارس المكتبات التي تحوي مخطوطات عربية، ولم يخرج في كل بحوثه عن المنهج العلمي الرصين، فأسدى للثقافة العربية خدمة جليلة بإخراج تراثها من ناحية، وبتصويب رأي المستشرقين فيها من ناحية ثانية، وعرف عن ابن أبي شنب أنّه أقرض الشعر وسلك فيه مسلك العلماء وخاض في معظم فنونه عدا الهجاء، ومنه قصائد كانت ليستنهض بها أمّته وبني جلدته للأخذ بيد العلم ورفض التخاذل والانصياع لنزوات النفس والذلّ. أنتج الرجل جراء تفانيه وجديته ما يزيد على خمسين كتاباً في سائر العلوم المتداولة عند العرب وعند الغرب، وفي العادات والتقاليد الموروثة بمنطقة المغرب العربي على الخصوص، وقد أحيا بعض التأليف بالنشر والتحقيق وبعضها بالتنقيح والتصحيح أو بالشرح والتعليق، فمن مصنفاته المطبوعة كتاب: “تحفة الأدب في ميزان أشعار العرب (1906-1928)”، “شرح لمثلثات قطرب (1906)”، “الأمثال العامية الدارجة في الجزائر وتونس والمغرب من 3 أجزاء (1907)”، “جرائد العقود في فرائد القيود (1909) وغيرها من الكتب والمؤلفات، وقد حقّق وصحّح العديد من كتب التراث العربي منها: “البستان في ذكر الأولياء والعلماء بتلمسان لابن مريم التلمساني (1908)”، وكتاب “أبو دلامة وشعره (1924)”، و”ما أخذه دانتي من أصول إسلامية” مطبوع بالفرنسية، وكتاب “الألفاظ التركية والفارسية الباقية في اللهجة الجزائرية”، و”طبقات علماء إفريقية لأبي ذر الخشني (1915)” مع ترجمة فرنسية، وشرحاً لكتاب “جمل الزجاجي”، وشرحا لديوان “عروة بن الورد لابن السكيت (1926)”، و”عنوان الدراية في من عرف من علماء المائة السابعة في بجاية للغبريني (1910)”، وكتاب “نزهة الأنظار للورثيلاني”، و”البستان في علماء تلمسان”.