jeudi 27 juillet 2017

المدرسة الزبيرية
الأستاذ الفاضل عبد العزيز خليل الشرفي هو أحد الوجوه الثقافية في مدينة المدية، وهو من حيث السن عوان بين الشيوخ والشبان، فهو شيخ بحسب ما يدل عليه ظاهره، فقد اشتعل رأسه شيبا، وهتمت السنون أسنانه، وخدّدت الأيام وجهه، وهو شاب من حيث حيويته ونشاطه، حتى إن أكثر من رأيتهم حوله هم من الشبان.. وهو كما قلت آنفا وجه من وجوه مثقفي مدينة المدية الأصيلة.. فعلى كثرة ترددي عليها لإلقاء دروس الجمعة في مساجدها العامرة، أو للمساهمة في نشاطاتها الثقافية كان الأستاذ عبد العزيز متصدرا الصفوف الأولى، يلفت نظرك بطلعته المهيبة، ولباسه ولحيته البيضاوين. وقد ائتلف قلبانا من أول لقاء بيننا.. لدرجة إيثاره لشخصي الضعيف على كثير من خلانه وتلاميذه لكتابة "مقدمة" كتابه عن أعلام المدية الذي أصدره منذ بضعة أعوام..
كثيرا ما كان الأستاذ عبد العزيز يذكر بالفخر والإعجاب نشاط جمعية العلماء المسلمين الجزائريين بمدينة المدية قبل إعلان الجهاد في ربيع الأول 1374 هـ (1 نوفمبر 1954)، ويقص علينا طرفا من ذلك النشاط الذي تمثل في "المدرسة الزبيرية".
لقد تحول ذلك الحديث عن تلك المدرسة إلى كتيب صغير الحجم كبير الفائدة، دبّجه يراع الأستاذ الفاضل "عربون وفاء وإخلاص لجهود كل من علم في المدرسة الزبيرية وتضحياتهم من الأحياء والأموات التي بذلوها ضد الاستعمار الفرنسي المتوحش"، وكم هو جميل ذلك القول الذي أورده الأستاذ ويلخص جهود أولئك المعلمين، وهو "لولا المربي لما عرفت ربي".. وكأن الأستاذ بهذه المقولة يلمز القائمة الحالية على المنظومة التربوية، التي تريد إعداد جيل لا يعرف ربه، ويجهل وطنه، ويعادي قيمه وهويته، تحت شعارات زائفة كـ "الحداثة" و"العصرنة" و"التقدمية".. وكلها برقٌ خلب، وسراب بقيعة.. لن تجنى الجزائر إلا الوبال من هذه السياسة.
إن مما يعطي قيمة وميزة لهذا الكتيب أن مؤلفه هو ثمرة لهذه المدرسة، ولذلك تحس فيه شحنة من الوفاء "عبر عنها بحيوية نابضة، وصدق خالص، وصورة تنطبق بنفسها، وتعبر عن ذاتها" (ص7)
لقد مهد الأستاذ للحديث عن المدرسة الزبيرية بالكلام عن مدرستين أخريين، أولاهما أسسها الشيخ عبد القادر ابن رقية في سنة 1934، وثانيتهما أدارها الشيخ محمد ابن تشيكو في سنة 1937، الذي تركها في 1944 ليلتحق بمدينة الجزائر، بعدما عين مفتيا حنفيا..
إن المدرسة الزبيرية في المدينة فريدة في مدارس جمعية العلماء المسلمين الجزائريين، فهي لم تبن لتكون مدرسة، وإنما كانت دارا لصاحبها عبد القادر ابن ملّوح، الذي اتصف بالشهامة والكرم، مع رجاحة في العقل، وتقدير للعلم، ومحبة للعلماء.. وكان له صديق هو أمحمد الزبير، صاحب همة وشرف.. وقد عرف كلاهما أن فيما آتاهما الله من خير حقا لشعبهما ووطنهما وعلما أن الله –عز وجل- سائلهما عما فعلاه فيما آتاهما، فاتفقا على تحويل هذه الدار إلى مدرسة، فتنازل أولهما عن شطر، وتولى ثانيهما شراء الشطر الثاني.. وكانت تتألف من طابقين أرضي وعلوي مجموع غرفهما سبعة.
ولا شك في أن هذه المدرسة هي التي ذكرها الشيخ محمد الغسيري عندما أشار إلى أن الإمام محمد البشير الإبراهيمي تقبل في المدية "دارا عظيمة وهبها لجمعية العلماء محسنان كبيران لتكون مدرسة للتعليم، وأعلن حكمه عليها أن تكون مدرسة خاصة بالبنات". (جريدة البصائر عدد 87 في 18-7-1949 ص 2). ونرجو أن تسعى شعبة جمعية العلماء الحالية في المدية إلى استعادة هذه المدرسة. فإن وفقت فذلك هو المرجو، وإن أبى أصحاب "الفكر الصخري" فقد أبرأت ذمتها.. وعند الله تجتمع الخصوم..
لقد ذكر الأستاذ عبد العزيز خليل أن اجتماعا عقد في منتصف عام 1947 في قاعة سينما ركس لتكوين جمعية لتسيير شؤون المدرسة، التي فتحت أبوابها في 1947-1948... في حين يذكر الشيخ الغسيري أن الإمام الإبراهيمي تقبل الدار– المدرسة في 1949 ...(؟)
"الفكر الصخري" هذا التعبير الجميل هو للدكتور محمد بابا عمي، وقد جعله جزءا من عنوان مقال "من الغاز الصخري" إلى الفكر الصخري" انظر كتاب "أزمتنا الحضارية" للدكتور طه كوزي (ص261) وهل أودى بالجزائر، وردها أسفل سافلين إلا أصحاب "الفكر الصخري" الذين لا يجوز عليهم التيمم..
لقد لفت نظري في قائمة الجمعية المسيرة للمدرسة وجود اسمين كان صاحباهما موظفين عند فرنسا، هما الشيخ مصطفى فخار والشيخ فضيل اسكندر. ولم يذكر الأستاذ إن كان الشيخان موظفين عند تأسيس اللجنة المسيرة للمدرسة.. ومعلوم أن الثقة لم تكن موجودة – في الأغلب- بين الموظفين عند فرنسا في القطاع الديني، وبين جمعية العلماء التي كانت ترى عدم جواز الصلاة وراءهم، لأن الإمام هو الذي يعينه ولي أمر المسلمين، ولا ولي لأمر المسلمين آنذاك، أو تعينه الجماعة المسلمة..
ويبدو أن الشيخين مصطفى فخار وفضيل اسكندر لم يكونا محل ثقة فرنسا، ولهذا عندما عين الإمام الإبراهيمي في بداية الاستقلال رئيسا للجنة الإفتاء الشرعي رأى أن تنوع تلك اللجنة بزيادة "خمسة من العلماء المشهود لهم بسعة الاطلاع، وحسن الإدراك لحوادث هذا العصر"، ومن هؤلاء الخمسة الذين اقترح الإمام زيادتهم الشيخان مصطفى فخار، وفضيل اسكندر.. (انظر آثار الإمام الإبراهيمي ج5. ص 309)
لقد قامت هذه المدرسة – مثل بقية مدارس جمعية العلماء الأخريات – بدورها الديني والوطني، والعلمي، والاجتماعي، وكان كثير من معلميها وكبار تلاميذها من أول من لبوا نداء الجهاد في 1374هـ (1954م)، فمنهم من قضى نحبه، ومنهم من ينتظر، وكثير من المنتظرين لم يبدلوا، ولم يلههم التكاثر، ولم يركنوا إلى الذين بدلوا وغيروا وأنساهم الشياطين مبادئ دينهم وقيم وطنهم.. واتخذوا الفرنسيين بطانة في كثير من الميادين فأخبلوا أمر الجزائر، وودّوا إعناتها... وفي أثناء الثورة اشترت قيادة الثورة في المنطقة دارا لأحد اليهود وألحقتها بالمدرسة الزبيرية تحت اسم "المدرسة الزبيرية السفلى" (ص14)
وأما المواد التي كانت تدرس فهي: النحو، والقراءة، والدين والحساب، والتاريخ، والجغرافيا، والعلوم، والإملاء، والإنشاء. (ص17)
إن فلسفة التربية عند جمعية العلماء هي المزج بين العلم والتربية، والدين والوطنية... ولهذا كان المنهج الباديسي قلبا وقالبا هو المطبق في المدرسة الزبيرية.. لأن معلميها هم من تلاميذ الإمام ابن باديس (ص16). وهذا المنهاج هو الذي يحاربه من وكلتهم فرنسا لتخريب الجزائر من داخلها.. ولو تغنوا بالوطنية والبيداغوجية والإصلاح.. "ألا إنهم هم المفسدون"
من أطرف ما ذكره الأستاذ عبد العزيز خليل أن الوالي العام الفرنسي في الجزائر زار المدية في 1959، و"حاول أن يفرض فتح قسمين لتعليم اللغة الفرنسية في المدرسة وإدماجها في المنظومة الفرنسية" فاحتال الشيخ المهدي ابن حجر المشرف على المدرسة – لإفشال هذا المخطط.. فمكر بالوالي الفرنسي قائلا: "لو شاهد "الفلاقة" العلم الفرنسي فوق المدرسة لنسفوها، ولذا أقترح أن نرفع العلمين الفرنسي والجزائري فتسلم المدرسة"، فرد المسئول الفرنسي بسرعة: لا، لا وتخلى عن فكرة ضم المدرسة إلى النظام الفرنسي.. (ص20)
شكر الله للأستاذ عبد العزيز خليل هذا الجهد، وياليت معلمي وتلاميذ مدارس جمعية العلماء يقتدون به في التأريخ لمدارسهم وزملائهم معلمين وتلاميذ.. وقد فعل شيئا من هذا الأستاذ محمد الحسن فضلاء، في تأريخه لمدارس جمعية العلماء عموما ولمدرسته الخاصة، "مدرسة التهذيب" وما فعله أحد الإخوة في التأريخ "لمدرسة الحياة" في جيجل، وما فعله الأستاذ محمد بومشرة بالنسبة لمدرسة "دار الحديث" بتلمسان، وما فعله الشيخ عدون بالنسبة لمعهد الحياة في القرارة، والدكتور عبد الله مقلاتي بالنسبة لمعهد الإمام ابن باديس.. وما فعله الأستاذ جاكر لحسن عن نشاط جمعية العلماء في مدينة معسكر والأخ محفوظ علالي عن الحركة الإصلاحية في الأغواط، والأستاذان المختاران ابن عامر وخالد مرزوق عن الحركة الإصلاحية في تلمسان، وأحد الإخوة، عن نشاط جمعية العلماء في غليزان.. فهذه روافد تصب في نهر تاريخ الجزائر المعاصر الذي يود "خدام فرنسا" عندنا محوه، فإن لم يستطيعوا –وما هم بمستطيعين- شوهوه ومسخوه، كما شوهت عقولهم ومسخت نفوسهم.